فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}.
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة في آخرين: هي مكية.
وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله: {والذين لا يَدْعُون مع الله إِلهًا آخر} [الفرقان: 68] إِلى قوله: {غفورًا رحيمًا} [الفرقان: 70].
قوله تعالى: {تبارك} قد شرحناه في [الأعراف: 54] والفُرقان: القرآن، سمي فُرقانًا، لأنه فُرق به بين الحق والباطل.
والمراد بعبده: محمد صلى الله عليه وسلم، {ليكونَ} فيه قولان:
أحدهما: أنه كناية عن عبده، قاله الجمهور.
والثاني: عن القرآن، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {للعالَمِين} يعني الجن والإِنس {نذيرًا} أي: مخوِّفًا من عذاب الله.
قوله تعالى: {فقدَّره تقديرًا} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: سوَّاه وهيَّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت.
والثاني: قَدَّر له ما يُصلحه ويُقيمه.
والثالث: قدَّر له تقديرًا من الأجَل والرِّزق.
ثم ذكر ما صنعه المشركون، فقال: {واتَّخَذوا من دونه آلهة} يعني: الأصنام {لا يَخلُقون شيئًا وهم يُخلَقون} أي: وهي مخلوقة {ولا يَمْلِكون لأنفسهم ضَرًّا} أي: دَفْع ضرّ، ولا جَرّ نفع، لأنها جماد لا قُدرة لها، {ولا يَمْلِكون مَوْتًا} أي: لا تملك أن تُميت أحدًا، ولا أن تحيي أحدًا، ولا أن تبعث أحدًا من الأموات؛ والمعنى: كيف يعبُدون ما هذه صفته، ويتركون عبادةَ من يقدر على ذلك كلِّه؟!. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان}.
{تَبَارَكَ} اختلف في معناه؛ فقال الفرّاء: هو في العربية وتقدّس واحد، وهما للعظمة.
وقال الزجاج: {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة.
قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير.
وقيل: {تَبَارَكَ} تعالى.
وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر.
وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه.
قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق؛ من برك الشيء إذا ثبت؛ ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت.
فأما القول الأوّل فمخلّط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء.
قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارَك ولا مبارَك؛ لأنه ينتهي في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف.
وقال الطِّرِمَّاح:
تباركتَ لا مُعْطٍ لشيء منعته ** وليس لما أعطيتَ يا ربّ مانع

وقال آخر:
تَبَارَكْتَ ما تَقْدِرْ يقعْ ولك الشكرُ

قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى المبارك وذكرناه أيضا في كتابنا.
فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلَّم للإجماع، وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عدّه؛ كالدهر وغيره.
وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله.
و{الفرقان} القرآن.
وقيل: إنه اسم لكل مُنزَّل؛ كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} [الأنبياء: 48].
وفي تسميته فرقانًا وجهان:
أحدهما: لأنه فرّق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر.
الثاني: لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام؛ حكاه النقاش.
{على عَبْدِهِ} يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم.
{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} اسم يَكُون مضمر يعود على {عَبْدِهِ} وهو أوْلى لأنه أقرب إليه.
ويجوز أن يكون يعود على {الفرقان}.
وقرأ عبد الله بن الزبير: {عَلَى عِبَادِهِ}.
ويقال: أنذر إذا خوّف؛ وقد تقدم في أول البقرة.
والنذير: المحذِّر من الهلاك.
الجوهريّ: والنذير المنذر، والنذير الإنذار.
والمراد ب {العالمِين} هنا الإنس والجن، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كان رسولًا إليهما، ونذيرًا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوح فإنه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق.
قوله تعالى: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} عظَّم تعالى نفسه.
{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله؛ يعني بنات الله سبحانه وتعالى.
وعما قالت اليهود: عزير ابن الله؛ جلّ الله تعالى.
وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله؛ تعالى الله عن ذلك.
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} كما قال عبدة الأوثان.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لا كما قال المجوس والثَّنوِيَّة: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء.
ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد.
فالآية ردٌّ على هؤلاء.
{فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي قدّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة، فهو الخالق المقدّر؛ فإياه فاعبدوه.
قوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته.
{لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} يعني الآلهة.
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لمّا اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبّر عنها كما يعبّر عما يعقل.
{وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} أي لا دفع ضرّ وجلب نفع، فحذف المضاف.
وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات.
{وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} أي لا يميتون أحدًا، ولا يحيونه.
والنشور: الإحياء بعد الموت؛ أنشر الله الموتى فنشروا.
وقد تقدم.
وقال الأعشى:
حتى يقولَ الناسُ مما رَأَوْا ** يا عجبًا للميِّتِ النَّاشِرِ

وقال أبو حيان:
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}.
هذه السورة مكية في قول الجمهور.
وقال ابن عباس وقتادة: إلاّ ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله: {وكان الله غفورًا رحيمًا} وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله: {ولا نشورًا} فهو مكي.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير، ومن خيره أنه {نزل الفرقان} على رسوله منذرًا لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذير من عقابه.
و{تبارك} تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر.
وقال الطرماح:
تباركت لا معط لشيء منعته ** وليس لما أعطيت يا رب مانع

قال ابن عباس: لم يزل ولا يزول.
وقال الخليل: تمجد.
وقال الضحاك: تعظم.
وحكى الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك، أي تعاليت وارتفعت.
ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات.
وقال ابن عباس أيضًا والحسن والنخعي: هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسندًا إلى {الذي} وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل، وإن كانوا منكرين لذلك.
وتقدّم في آل عمران لمَ سمي القرآن فرقانًا.
وقرأ الجمهور {على عبده} وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال: {لقد أنزلنا إليكم} {وما أنزل إلينا} ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} والضمير في {ليكون}.
قال ابن زيد: عائد على {عبده} ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله: {إنّا كنا منذرين} والظاهر أن {نذيرًا} بمعن منذر.
وجوز أن يكون مصدرًا بمعنى لإنذر كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه {فكيف كان عذابي ونذر} و{للعالمين} عام للإنس والجن، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات.
وقرأ ابن الزبير {للعالمين} للجن والإنس وهو تفسير {للعالمين}.
ولما سبق في أواخر السورة ألا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخبارًا بأن ما فيهما ملك له، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما، فاجتمع له الملك والملك لهما.
ولما فيهما، والذي مقطوع للمدح رفعًا أو نصبًا أو نعت أو بد من {الذي نزل} وما بعد {نزل} من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلًا بين النعت أو البدل ومتبوعه.
{ولم يتخذ ولدًا} الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحدًا منزلة الولد.
وقيل: المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه.
وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد.
{ولم يكن له شريك في الملك} تأكيد لقوله: {له ملك السموات والأرض} ورد على من جعل لله شريكًا.
{وخلق كل شيء} عام في خلق الذوات وأفعالها.
قيل: وفي الكلام حذف تقديره {وخلق كل شيء} مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال: أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم {وخلق كل شيء} ذاته تعالى ولا صفاته القديمة.
{فقدره تقديرًا} إن كان الخلق بمعنى التقدير، فكيف جاء {فقدره} إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره {تقديرًا}.
فقال الزمخشري: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثًا مراعى فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له، أو سمي إحداث الله خلقًا لأنه لا يحدث شيئًا لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت.
فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده متفاوتًا.
وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه {فقدره} للبقاء إلى أمد معلوم.
وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى.
{واتخذوا من دونه آلهة} الضمير في {واتخذوا} عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله: {ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك} دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به.
وقال الكرماني: الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله: {للعالمين}.
وقيل: لفظ {نذيرًا} ينبىء عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في {واتخذوا} كل من ادعى إلهًا غير الله، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب.
وقال القاضي: يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع.
والأقرب أن المراد به عبَدة الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى.
ولا يلزم ما قال لأن {واتخذوا} جمع و{آلهة} جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ {آلهة}.
ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئًا من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتًا أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز.
ومنه قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ** القوم يخلق ثم لا يفري

وقال الزمخشري: الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله: {وتخلقون إفكًا} والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبَيْنَ من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئًا وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير {ولا يملكون لأنفسهم} دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ الله أعجز. اهـ.